Tuesday 5 August 2014

معضلة الأخلاق والدماء وشنط رمضان

مر مجتمعنا بتجربة الاختلاف العلني الحاد ربما كانت الأقوى منذ فترة مديدة. وبينما كان المجتمع المصري دائم الاختلاف قليل الانسجام الفعلي في عمره الطويل، كان كثيرا ما يلجئ للكتمان والتجاهل لتجنب حل تلك الصراعات، وفي حين تتعلم المجتمعات الغير منسجمة ثقافة الاختلاف من الاحتدام العلني والحروب الأهلية، لم يواجه مجتمعنا عدم انسجامه يوما، ولم يعترف بوجوده أصلا. في العامين الماضيين على وجه التحديد، وصلت تلك المواجهات لأوجها، فظهر الوجه القبيح للأخلاق المجتمع، وتجردت الوجوه من أي سماحة كانت تصطنعها، وبدت الأزمة الأخلاقية لشعب كامل لم يتقبل الاختلاف يوما.

وبينما ذهل البعض من أخلاق جيرانه وأصدقائه العفنة، اختار البعض تجاهل تلك الحقبة واعتبارها “سقطة أخلاقية" لكي يستطيع معاودة حياته اليومية بدون أن يجز رقاب زملائه وأقرابه وينكل بجثثهم... وفيما تبدو فكرة القتل المتسلسل مغرية للكثير منا، يظل واقع الأمور أن علينا معاشرة تلك المسوخ بوجوه بشوشة لبقية حياتنا، أو حياتهم، أو حتى تنفجر فينا جميعا قنبلة الخلاص، أيهما أقرب...

لكن المشكلة الحقيقة، أن من أي زاوية نظرت للموضوع، فقصة "سقطة أخلاقية" تخلو تماما من أي منطق… تخطي الطابور في المترو سقطة أخلاقية، سرقة العشرة الجنيهات التي سلفتها من صديقك سقطة أخلاقية، الكذب على زوجتك لمشاهدة مباريات كأس العالم سقطة أخلاقية، حتى سرقة مقال قد تعد سقطة أخلاقية، لكن استباحة الدم والحث على القتل قطعا ليست سقطة أخلاقية، بل أن وصفها بالفاشية يبدو انتقاصا من حقها.

وفي حين أن لك حرية الاختيار الكاملة في تعاملك مع من اختلفت معه على ابسط قواعد المنطق وقيمة الحياة البشرية، لكن تبقى الحقيقة ثابتة لم تتغير:
من يرى أن التعامل مع الاختلاف يكون بالقتل أو الإعدام أو العنف البوليسي أو حتى بسحب الجنسية فهذا لسنا مختلفين معه في الآراء... هذا شخص مختل عقليا لديه بوار أخلاقي يسمح له بتبرير أي جريمة من منطلق المصلحة الفردية والقبلية... من يرى أن فض اعتصام بقتل المئات هو إنجاز عظيم أو عمل لابد منه أو أي شيء غير كونه جريمة بشعة هو شخص مريض ليس لديه الحد الأدنى من الأخلاق ليعيش في مجتمع بشري غير همجي... من يرى القتل ويدين المقتول أو من حثه على المعارضة شخص مختل … من يصرخ “الدم المصري كله حرام” و"فلنوقف العنف من الجانبين" كأننا لا نعرف الجاني والضحية، كأن القاتل لا يقف عند رأس من قتله ممسك برشاشه ويده تقطر دما، من يرى هذا ثم يبحث عن "تقصي الحقائق" ويطالب بالبحث عن الجاني هو شخص أعمى أزهق ابسط معاني إنسانيته ليتماشى مع مجتمع عاهر... من يطالب بالتخلص من معارضيه لكونهم معارضيه، من يتهمهم في قتلهم وسحلهم، من يتساءل جادا "إيه اللي وداها هناك؟"... من يتقبل حكم بإعدام مئات الأشخاص بقلب رحب، من يرى فيه العدالة، من يرى فيه أي نوع من أنواع المنطق، من ينتظر ليرى حيثيات الحكم، من يقل “لعلهم أخطأوا في شيء”، من يضع قيمة القانون قبل قيمة الحياة، من يضع قيمة الوطن قبل قيمة الحياة، من يرى إسكات الأفواه حلا لمشاكل أصحابها، كل هؤلاء ليسوا بشرا... كل هذه القيم ليست مجرد اختلاف... كل هذه التصرفات ليست مجرد سقطات أخلاقية… هذا اختلاف جوهري على ابسط معاني الإنسانية والمنطق، يجعلنا نشك أن صاحب الرأي لديه من العقل ما يكفيه لاتخاذ قرار صائب في حياته، لديه من الأخلاق ما يكفيه لنأمن وجوده بيننا، لديه من الإنسانية ما يكفيه ليكون بشرا...

هؤلاء الأشخاص -بالرغم من شكنا القوي في رجاحة عقولهم وقدرتهم على تقبل الاختلاف- لا يزالوا يعيشون بيننا، ولا يزالوا يحسبون انفسهم بشرا. وبذلك فهم لم يكفوا عن التشبه بالبشر وممارسة ما يسميه البشر “تعاطفا"، ويشاركوا في أنشطة خيرية كجمع التبرعات ومساعدة من رضوا عنهم وبالطبع شنط رمضان. وبالرغم من أنه على الأرجح هم صادقوا النية في ذلك، لعلهم يظنون فعلا انهم بذلك محسنون كما أن إبلاغ الشرطة عن جارهم الملتحي كان إحسانا، إلا إن شكوكنا في صحة قواهم العقلية وقدرتهم على اتخاذ قرارات أخلاقية تضع عائقا كبيرا في التعاون معهم في أعمال الخيرية مثل تلك... طبعا عمل مثل شنط رمضان هو عمل خيري طبيعي ليس عليه غبار، طالما سيذهب إلى محتاجيه بدون تفرقة، فالباقي يعد مجرد تفاصيل تنفيذ، لكن حين يعود الأمر لأحد الشيفونيين الجدد لإدارة التنفيذ، شخص سمعته مرارا يدعوا بالموت على الضحايا لما سببوه من خراب، ويصدق على أحكام الإعدام الجماعي، شخصا مثل هذا يمكن بكل سهولة أن تأثر لوثة أفكاره على تنفيذ أي شيء.. يمكن بكل سهولة أن ينتقي من يحصل على المساعدة بناء على معاييره العفنة، يمكن بكل سهولة أن يعتقد أن في مساعدة الشرطة في قهر المدنيين ثواب رمضاني عظيم.

إذا كنا سنعيش معهم لا محالة، فلابد من التعامل معهم بطريقة أو بأخرى، لكن بالنسبة لي –وأنا كثير الثقة في الناس- ثقتي في أي شيء يتضمن ولو اصغر القرارات منهم ستكون اقل بكثير من ثقتي في قرارات أي شخص غريب لا أعرفه... أي أني إذا أردت أن أعطي  نقودي لمن يستطيع أن يساعد بها المحتاج، سأفضل أن أعطيها لشخص عشوائي في الشارع عن أن أعطيها لذلك القريب أو الزميل …

في النهاية الموضوع براجماتي بحت… أنا رأيت بوصلة اتخاذ القرار لهذا الشخص، وإيماني بالطبيعية البشرية يجعلني شبه متأكد أن هذا الشخص من أسوء عينات البشر في العالم، أي أني باختيار شخص عشوائي من الشارع لدي فرصة أكبر في الحصول على شخص أجدر بثقتي فيه… فخلال حياتنا كلنا نرتكب الأخطاء، لكن هناك أخطاء هي مجرد أخطاء -كبيرها وصغيرها-، وهناك أخطاء تجرد قيمنا وتكشف الوجه القبيح للوحوش التي بداخلنا، والتي لم تخرج حتى الآن فقط لأنها لم تمكن بعد.

No comments:

Post a Comment