Monday 16 September 2013

تلة هامشير - قصة قصيرة

دخل إلى البيت مسرعا، انطلق عدوا نحو غرفة المكتب في الطابق العلوي. كان كل شيء مرتب في عقله، يعرف تحديدا ما يتوجب عليه فعله، وهو ما بدى له غريبا، كان يتوقع أن يفزع أو أن يفقد السيطرة... جفف دموعه بظهر يده ثم بحث قليلا على الإنترنت، امسك الهاتف في لهفة، انتظر في نفاذ صبر وهو يضغط الأزرار لمحاولة تخطي القائمة الصوتية والوصول لشخص ما يستطيع التحدث معه… كانت نوافذ الغرفة المظلمة مفتوحة على مصراعيها في إهمال، يتسلل إليها نسيم باسادينا العليل وتترقق في الأفق أضواء لوس أنجلس الصاخبة …أضاء وجهه حين ردت عليه ممثلة الشركة وقال في لهفة مسرعا “أريد أكبر شاحنة لديكم يمكنها السير على الطرقات الوعرة!”.

نظرت إليه في دهشة، كانت أضعف من إن تسأل، أضعف من أن تهتم… أشارت إليه في وهن بمعنى أنها لا تفهم أو لا تهتم، لكنه لم ينتظر إجابة حقيقة منها، نزع المحاليل المتصلة بجسدها، حمل جسدها الواهن بين ذراعيه، خرج بها إلى الرواق فأبدت بعض الممرضات اعتراضا لكنه اخرج ورقة ما من جيبه فأخرسهم، نزل بها لقبو المشفى عدوا، وضعها على سرير حديدي لا تعلم من أين أتى، ودفع السرير إلى شاحنة نقل رباعية الدفع مثل التي كان يقودها أبوها يوما وسط مزارع نبرسكا.

انطلق في تؤدة محاولا ألا يجعل الرحلة شاقة عليها، بدت على وجهه نظرة تطلع، وهي نظرة لم يعرفها وجهه منذ أزمان - خمس سنوات على وجه التحديد.- تبخر الأمل من وجهه حين تذكر حاله قبل ذلك اليوم المشئوم، تذكر كيف كانت هيلينا نابضة بالحياة يوما، وكيف كانت تدفعه دفعا للخروج واستنشاق هواء الجبال، كيف كانت تحب الأشجار والطيور والمطر.. تذكر كيف كانت تجبره على المشي عشرات الأميال فقط ليروا الأفق من وراء تلك الغابة أو فوق تلك التلة... تذكر كيف كان يظن أن كل ذلك مجهود ضائع بلا هدف... تذكر كل هذا وعادت عيناه لتدمعا من جديد بعد أن جفتا لفترة. هز رأسه بعنف، دفع الذكريات من رأسه، حدث نفسه بصوت عالي مدعيا أن كل شيء سيكون على ما يرام... ستشفى هيلينا وتعود لتعذبه برحلاتها الخلوية المرهقة… نظر في جهاز الملاحة الإلكتروني وهو يحاول التأكد من إدخاله اسم وجهته صحيحا، "تلة هامشير"... ظل يكرر الاسم لعله يدفع أفكاره السوداء بعيدا... كان يعرف أن تقديرات الأطباء عادة ما تكون صحيحة، لكن جزئا منه لم يصدقهم أبدا، جزئا منه ظل متمسكا بالأمل، لمرة واحدة في حياته يريد أن يتبع الأمل بلا دليل، بلا علم، بلا منطق… لمرة واحدة فقط يريد أن يؤمن بأن شيئا ما سيحدث لا لسبب منطقي، ولكن لأنه يريده أن يحدث…  "تلة هامشير"... استمر في ترديد الاسم وعيناه لا تفارق الطريق.

اهتزت الشاحنة بقوة، عرفت أنهما تركا الطريق الممهد ودخلا في طريق وعر. ازداد شعورها بالغثيان، لم تفهم لما يفعل هذا بها وهي في تلك الحالة... كانت مشاعرها خدرة بسبب العلاج الكيميائي، لم تستطع استجلاب مشاعر الغضب أو حتى الفضول... لم تشعر بعدم الارتياح، فهي قد نسيت الارتياح منذ سنين، كانت في حالة دائما من اللاشعور... وجود تنتظر انتهائه لكيلا تشعر بشيء… توقفت الشاحنة، ارتجل كاليوب وجر السرير الحديدي إلى خارج الشاحنة. شعرت بالنسيم الخفيف أولا، ثم لسعة البرودة الخفيفة ثانيا … مرت لحظات حتى استعادت توازنها واستطاعت أن تنظر للسماء فوقها... كانت السماء حالكة السواد صافية لا قمر لها. في زمن آخر كان هناك هيلينا أخرى تقضي شهورا بحثا عن فرصة لترى النجوم في ظروف مثل هذه، لكنها ذهبت وذهب زمانها... هي الآن تريد أن تعود إلى سقف المشفى المظلم، حيث التحديق في العدم... ظل يدفع سريرها فوق أرض صخرية قاسية، دقائق واعتادت عيناها على الظلام، حتى رأت النجوم لأول مرة منذ أربعة سنين…
بدا أن شيء مختلفا يحدث بداخلها… مر بها فجأة مزيج من المشاعر، الحنين والحماس والشوق لمكان لا تعرف أين هو، لكن الشعور الغالب كان حزن دفين لا تعرف له سببا... لكنها لم تعبئ، استمتعت بذلك الحزن …كانت نسيت أنها يمكن أن تشعر بشيء ما، حتى لو كان حزنا … ازداد وضوح النجوم فوقها، قلت كثافة الأشجار وبدى واضحا أنهما يصعدان تلة ما، ومع وضوح النجوم أكثر فأكثر كانت تشعر أن تفكيرها يصفى شيئا فشيئا... وصلا إلى قمة التلة، أوقف كايلوب السرير، وضع مخدة عالية تحت رأسها لتتمكن من الرؤية أمامها... كانت تعرف ذلك الأفق جيدا... الثلاث جبال المحيطة للبحيرة الكبيرة، السماء الممتدة فوقهما، الأشجار الطويلة تحت ضوء النجوم، إنها تلة هامشير !
بدا أن مزاجها قد خطا مقدار مجهري في اتجاه أحسن … لم يتحسن شعورها بالغثيان أو عدم الرغبة في الوجود، بحثت عن كايلوب حولها، رأته قادما بغطاء ثقيل من مكان ما، قام بتغطيتها به، ثم تدثر بجانبها على الفراش، وبدون كلمة واحدة ضمها إليه.

شعر بحرارة جسدها المريض على صدره، بدا أنه يحاول نسيان مرضها، نظر إليها ورأى ابتسامة واسعة على شفتيها... كان هدفه من تلك الليلة بأكملها هو تلك البسمة، الآن وقد حصل عليها كان من المفترض أن يشعر بالنشوة… لكنه بكى بدلا من ذلك.  بكى بحرقة شديدة... لم يعرف علاما يبكي، لكنه استمر في البكاء، وضمها إليه أكثر. سالت الدموع الساخنة على وجهها، نظرت إليه، مدت يديها لتمسح دمعه في وهن. "لماذا أنت قلق يا صغيري؟ الم نتفق أن كل شيء سيكون على ما يرام؟”. "أنا لست قلقا..." قالها وهو يمسك يدها بكلتا يديه، افتعل  ابتسامة وقال "أنا سعيد فقط”. ابتسمت ابتسامة رضا، وأغلقت عينيها وسكن جسدها… أما هو فظل يكرر “أنا سعيد جدا” ويبكي في صمت.

بقلم/عبدالرحمن بليغ.

No comments:

Post a Comment