Thursday 14 August 2014

نني عينيها من جوه - قصة قصيرة

انفتح باب التخشيبة ببطء وطلت منه الرأس العملاقة للشاويش.. وقف برهة ساكنا كأنما تذكر كرهه للمكان، أو ربما تذكر كرهه ليومه أو حياته كلها.. مرت ثواني وبعدها عاد بنظره للمتهمين الجالسين على أرض التخشيبة ونادى بصوت جهوري رتيب "خالد ناااصر". تحرك أحدهم ببطئ من ركن مظلم في التخشيبة وقام من على الأرض بكسل وهو يبدو عليه التعب، نفض التراب من ملابسه واتجه نحو الباب خاطيا فوق يد أو ساق احدهم، ولم يبد ان أحد يبالي بذلك… مشى وراء الشاويش في صمت. تحرك الرجلان في أروقة القسم ببطء شديد وكأنه لا يوجد في الكون كله ما يستحق. تعلو وجههم نظرة لامبالاة قادرة على امتصاص الحياة ذاتها من استاد مليء بالمشجعين، وتحت الإضاءة الصفراء الرديئة للرواق الطويل ظهر وجه الرجل الثاني.. شاب ثلاثيني يبدو عليه النعاس، يرتدي عوينات مهشمة ربطها بخيط يبدو أنه مأخوذ من قميصه الأصفر الخفيف، ويبدو على  الشورت الطويل الذي يرتديه آثار احذية متنوعة الأحجام والأشكال. كان الشاويش ينظر إليه بحسد وتحسر كلما تثائب ومد ذراعيها في الهواء لتسمع فرقعة العظام بصوت عالي وكأنما يحسده على النوم الذي ظفر به في التخشيبة، فقط ليتذكر كرهه للحياة و العالم، ثم تعود نظرة اللامبالة لتعلو الوجهين.

طرق باب مكتب ما ثم دخل ليقول بنفس الصوت الخالي من أي أمل في الحياة "خالد ناصر يا باشا". تمر لحظات صمت  بدون ان ينظر وكيل النيابة للشاويش لا يقطعها سوى صوت أنين مروحة السقف القديمة، حتى يرد الوكيل بصوت بارد بدون ان يرفع نظره عن هاتفه "خلاص دخله واتكل أنت يا رضا".
التقط مجموعة من الأوراق من على مكتبه ونظر إلى الراجل الناعس بإهتمام وقال "أنت بقى خالد ناصر؟" أومأ الشاب برأسه في كسل وأردف "دكتور خالد ناصر" نظر إليه الوكيل في استمتاع وقال "بس مكتوب هنا إنك مهندس". لم تتغير نبرة الشاب هو يرد "دكتور مهندس". أومأ الوكيل برأسه وتظاهر بتقليب الأوراق التي أمامه، ثم رفع رأسه مجددا للشاب الماثل أمامه وسأله "أنت بقى معاك الجنسية الأمريكية يا خالد ؟" بدا على الشاب نظرة اهتمام لأول مرة… ضاقت عينيه وفكر قليلا، ثم قال بشك "لأ للإسف...، ليه ؟" بدت على الظابط نظرة اندهاش ثم عاد ليطالع الورق بإهتمام. مرت بضع ثوان فتوجه الوكيل بنظره إلى الشاب وسأل بفضول "أُمال ليه السفارة الأمريكية باعتة طلب دبلوماسي بتطالب بالافراج عن واحد مصري ؟". اقترب الشاب من المكتب ببطء، ونظر إلى الورق الذي بيد الوكيل بإهتمام، ثم ابتسم فجأة بعد ان لمح كلمة ما في الورق.. قال بفهم "ديه الشركة اللي أنا شغال فيها بعتت طلب لوزارة الخارجية عشان تعمل كده".. نظر الوكيل له في شك، ثم نظر في شك للورق وقال  "الشركة بتاعتك هتخلي السفارة الأمريكية تبعت طلب دبلوماسي عشان واحد من الموظفين بتوعها ؟ ليه أنت تعرف مين هناك ؟" لم تتغير الابتسامة على وجه الشاب ورد في هدوء "لا ماعرفش حد، أنا بس مهندس في قسم البحث بتاع الشركة، وبمثل بالنسبالهم مورد مهم".. لم تبدو على الوكيل علامات الفهم فأضاف الشاب "والشركة ديه مصدر كبير للضرايب في امريكا فالحكومة ووزارة الخارجية بياخدوا طلباتها على محمل الجد دايما". اعتدل في جلسته وسأل الشاب "أنت قلتلي بتعمل إيه في الشركة ديه يا خالد ؟" هم الشاب بالحديث لكنه تردد للحظة، ثم بدت عليه صعوبة لشرح مايريد قبل ان يقول "مهندس بحث في قطاع الهوائيات، باطور الهوائيات بتاعت الأجهزة المدمجة اللي بتستخدم في العربيات". لم يبد على الوكيل انه فهم كلمة واحدة مما قيل، فأضاف الشاب بتردد "تقدر تقول مطور أو مخترع". ابتسم الرجل وقال في فخر "مخترع… زي الدكتور عبدالعاطي والدكتور زويل كده ؟".. بدت على الشاب نظرة غباء للثوان، ثم قال بتهكم "تقدر تقول كده".

ضحك الوكيل وتغيرت نبرته تماما وهو يقول للشاب "هم دايما المصريين كده… مبدعين في كل حتة". اظلم المكتب فجأة وتوقفت مروحة السقف عن الهسيس، لحظات قليلة وأنار ضوء أبيض خفيض من ركن الحجرة يبدو انه اضاءة الطواريء، لم يبد على الوكيل انه يبال بانقطاع الكهرباء، واستمر في الكلام "أهو عشان كده الخواجات دايما طمعانين فينا، مش كده ولا إيه ؟".. ابتسم الشاب ابتسامة صفراء وأومأ فيما حاول أن يجعله أقرب شيء للموافقة.. "هم بلاد برة كده دايما، منغيرنا احنا مايعرفوش يعملوا حاجة.." قالها وهو يفتح شباك المكتب بعد ان توقف مكيف الهواء ومروحة السقف عن العمل.. "طب ده أنا حتى ليا قريب في ألمانيا بيقولي كل الداكترة هناك مصريين".. لم يدر الشاب بماذا يرد، فاكتفى بابتسامة حمقاء وتحريك رأسه "آه ولله.. زي مابقولك كده".. اقترب الوكيل منه وقال "الخواجات يا خالد عايزين يمصوا دمنا، يعاملونا معاملة ولا الحيوانات وبعدين يتقدموا على قفانا". وضع يده على كتفه، تأوه الشاب في ألم وقال بصوت مبحوح "كتفي حضرتك مفتوح من ضرب العساكر امبارح في المظاهرة". لم يبد على الوكيل انه سمع ماقاله الشاب، لم يحرك يده وقال في لهجة درامية "إنما الواحد فينا لو قعد في بلده عشان يفيدها يقعد معزز مكرم في وسط أهل بلده وياكل الشهد" تراجع الشاب للخلف ليهرب من قبضة الوكيل على كتفه، ليرتطم بباب المكتب الموارب.. اسمتر الوكيل في التحدث باللهجة الدرامية وهو ينظر إلى السقف في تجلي "المواهب اللي زيك يا خالد مصر محتاجها، ادي البلد عشان تديك يا خالد.." تعثر الشاب في عتبة الباب ليسقط بالخارج، حيث كان الشاويش يقف ويندب حظه في الدنيا.. لم يبد أن الوكيل مهتم بسقوط من يتحدث إليه وقال في لهجة ملحمية وهو يحرك يديه في الهواء "مصر تشيلك في نني عينيها من جوه بدل المرمطة في بلاد برة.. مصر أولى بيك".. نظر خالد إلى قدمه المليئة بالكدمات من أثر الضرب، ثم نظر إلى الشاويش الموشك على الإنتحار من فرط الكآبة، ثم تحرك بنظره إلى مروحة السقف الساكنة في الظلام وتمتم  "مصر في القلب طبعا" ثم تحرك بنظره إلى الورقة ذات الطباعة الفاخرة المختومة بختم النسر الأقرع الأمريكي في يد الوكيل، ووقع نظره على الجزء الواضح منها والمكتوب فيها بخط منمق كبير باللغة العربية "المواطن خالد ناصر يهمنا أمره بشدة"".. ثم أضاف بصورة شبه آلية وهو يحاول إظهار نبرة السخرية في صوته قدر الإمكان "هنعمل إيه بقى… ربنا يصبرنا على ذل الاجنبي". ثم ساعد نفسه على القيام وهم بالإنصراف وهو يجر ساقه المصابة في الظلام.

بقلم/ عبدالرحمن بليغ.

No comments:

Post a Comment